على مدى نصف قرن ونيف - بين عامي 1922 و1974 كنت فلسطين موضوعاً أثيراً عند الجواهري. وكانت أحد الثوابت الأساسية عنده، بوصفه شاعراً وطنياً، انصرف لقضايا أمته العربية من محيطها إلى خليجها، مدافعاً عنها، ومنبهاً لمواطن الخلل فيها، ومصادر الخطر عليها بالإضافة إلى موضوعات أخرى، لا تنفصل عن الأولى، وإنما ترتبط بها ارتباطاً عضوياً، نلحظها في القضايا الاجتماعية والفكرية التي تحيط بمجتمعه وأمته، فتحد من تقدمها، وتحول دون مواكبتها للعصر وما فيه من تقدم وتطور لابد من اللحاق به، والتفاعل معه.
وقد خلف الجواهري ديواناً ضخماً، كان فيه شاهداً على القرن، وما تم فيه من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية. ناهيك عما مر به من مواقف وظروف جعلته لا يستقر على حال، ولا يكاد يقيم في مكان حتى يشد عصا الترحال إلى مكان آخر. وكانت له محطات في مصر، وسورية، وتشيكسلوفاكيا، ولبنان، بالإضافة إلى الوطن الأم العراق. وهو في كل الأحوال كان مختاراً لهذه المحطات إقامة وهجرة. وهو اختيار ينم على ثورة داخلية، وتمرد على المألوف، ولا أقول: قلق، وإن لا يخلو من شيء منه. وإن تراثه الشعري جاء غنياً بالحديث عن العام لا الخاص. وعما يخص الجماعة لا الفرد. وقد تجاوز بيئته المحدودة، ووطنه العربي الكبير، وامتد إلى أفق العالم الرحب، فكان إنساني النظرة، غير منطو على نفسه، أو على قومه، وإنما كان خصماً عنيداً للقهر، وعدواً لدوداً للظلم في كل مكان.
وكانت قضية فلسطين خير دليل على العدوان، وصورة حية لاستبداد القوي بالضعيف، واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، وهو ما يقف الجواهري على طرف نقيض منه. فكانت محكاً حقيقياً له، وامتحاناً صعباً لابد من النجاح فيه، إن أراد لدعوته أن تشيع، ولفنه أن يتجسد بحيث يكون مثلاً يحتذى، ورسالة خالدة تقتدى. وقد فعل، فخصَّ فلسطين - في الفترة التي أشرت إليها- بتسع قصائد مستقلة، وأردفها بثمان أخر، كان لفلسطين نصيب فيها. وهي مادة غنية بكمها وكيفها، عكست تصور الجواهري لهذه القضية، وموقفه منها، وهي، وإن كانت قد ألقيت في مناسبات بعينها، تتصل بأحداث حادة في فلسطين، إلا أنها نمت نمواً طبيعياً، وتطورت تطوراً تاريخياً ظاهراً، إذ بدأت بالتنبيه على الخطر المحدق، ودعت لمواجهته قبل أن يستفحل ويصعب القضاء عليه كما لفتت الأنظار إلى مصادر القوة والضعف في الأمة العربية.
وطال وقوف الشاعر عن هذه الأمور، لأنه ما كان يرى تغيراً في الموقف أو الظرف، بل إن الأمور تزداد سوءاً، وفلسطين تضيع أجزاء. حتى إذا ما حدث تلاؤم بين ما يدعو الشاعر عليه، وبين ما يطبق على الواقع، بهد هزيمة حزيران سنة سبع وستين، بنمو القتال، وانتقال المواطن العربي من حالة الهزيمة والهروب، إلى الصمود والهجوم، لحظنا الجواهري ينطلق مغرداً بالفداء والدم، شادياً بالبطولة والشهادة، جاعلاً ذلك بنهاية المطاف عنده، لأنه حقق ما يريد، فصمت عن الكلام قرابة ربع قرن. وكأنه أراد أن لا تهتز الصورة الجميلة التي تراءت له، صورة البطولة والصمود والشهادة والفداء. ومعه الحق في ذلك، لأنها حالة استثنائية في تاريخنا المعاصر. إذ إن الفترة التي تفصل أخر قصيدة قالها في فلسطين عام 1968،وهي من أجمل وأروع ما قال الجواهري في شعره كله، وبين وفاته، تقترب من ثلاثين عاماً، قال فيها الشاعر شعراً كثيراً، لكنه لم يخص فلسطين بقصيدة، لأن سير الأحداث فيها كان يتناقض مع ما قاله في قصيدته الأخيرة. وإن حدث تطابق في مرحلة الانتفاضة، فهو يتسجم مع تلك القصيدة، ولا حاجة للمزيد.
وبهذه الرؤية،أثرت أن أدرس قصائد الشاعر، من خلال هذا التطور، على القواسم المشتركة في قصائده، والجوانب التي كان فيها اختلاف، وما هي الأسباب التي دعت إليه.
-2-
بدأ الجواهري رحلته مع فلسطين، مع بداية رحلته مع الشعر، وهو يحاول أن يجد له مكاناً بين الشعراء الكبار، بينما هو في مقتبل العمر، وفي مرحلة المحاكاة والتقليد والمعارضة،وكان الشاعر محمد رضا الشبيبي واحداً من الشعراء البارزين في النجف الأشرف في مطلع القرن، ووجد الجواهري أن يبدأ بمعارضته، في قصيدة له عنوانها "في سبيل الشرق" ومطلعها:
لم يبق لي إلا الشباب وإنه
ديباجة ضمن الأسى إخلاقها
فعارضة الجواهري بقصيدة عنوانها: "الشباب المر" وكان ذلك عام 1922. وهو العام الذي أقرت فيه عصبة الأمم الانتداب البريطاني على فلسطين. وكان في ذلك القرار موافقة ضمنية على وعد بلفور، الذي سبق لبريطانيا أن قطعته على نفسها منفردة، بمنح اليهود وطناً في فلسطين. فما كان للجواهري إلا أن يعرض لهذا القرار، ولآثاره المجحفة بحق فلسطين، ولما سيترتب عليه من نتائج. والعجيب في الشاعر أن يتنبأ بضياع فلسطين كلها في ذلك الوقت المبكر "لحقت فلسطين بأندلس أسى"[1]. ويكتفي بهذه الإشارة الدالة، ولا يطيل في الموضوع. وحسبه ما أشار.
وكان أول احتكاك مباشر بين العرب واليهود عام 1929، حين حاول اليهود الاستيلاء على البراق، "الحائط المبكى" في القدس، فاحتج الفلسطينيون على ذلك، وحدثت صدامات دامية بينهم وبين اليهود، كان من نتائجها سقوط عدد من القتلى من الطرفين. فألقت سلطات الانتداب البريطانية القبض على عدد كبير من الفلسطينيين، حكمت عليهم بالسجن مدداً متفاوتة، ونفذت حكم الإعدام في ثلاثة منهم، في يوم مشهود، عُرف بيوم "الثلاثاء الحمراء" وهو عنوان قصيدة رائعة لابراهيم طوقان، قالها في هؤلاء الشهداء.
وتنادى الشعراء العرب في هذا اليوم، وقالوا قصائد كثيرة، نددوا بالاعتداء على القدس، وبالموقف الجائر للسلطات البريطانية، التي أظهرت تحيزها لليهود ضد الفلسطينيين. وكان الجواهري واحداً من هؤلاء الشعراء. فقال أولى قصائده الفلسطينية في هذه المناسبة.
أما عنوان القصيدة، فهو "على فلسطين الدامية"[2]. وأما عدد أبياتها، فهو ثلاثة وأربعون بيتاً. وقد افتتح الشاعر قصيدته بمقطع عبر فيه عن حزنه لما حلَّ بفلسطين، وعن رغبته في أن لا ينقل هذا الشعور إلى كل من حوله، علهم ينهضون لنصرتها. ويلتفت إلى قدراته فيجدها متواضعة، لأنها مقصورة على القرطاس والقلم، وترجمة عملية للعواطف الجياشة التي تعتمل في نفسه ، وفي نفوس قومه. لكن التجاري أثبتت أن الكلام وحده أقرب للتقاعس والمذلة والمهانة منه للإقدام والمواجهة، لأن المرء يشعر أنه أدى واجبه، ودفع اللوم عن نفسه. ويضرب الشاعر أمثلة على هذا كثيرة، إذ ما زالت خديعة بريطانيا وفرنسا للعرب في الحرب العالمية الأولى ماثلة أمامهم، وإن تقسيم نفوذهما في بلاد الشام والعراق وتقطيع أوصال هذه البلاد الموحدة تاريخياً، واجتماعياً، وحضارياً لم يبرأ جرحه. وقد كتب في هذا كثير، ودبجت فيه قصائد عديدة، لكن النتائج كانت هي هي: تكريس للتجزئة، وترسيخ للنفوذ الأجنبي، وما يحدث في فلسطين هو امتداد له، وترجمة لأبعاده، قال:
لو استطعتُ نشرتُ الحزن والألما
على فلسطين مسوداً لها علما
ساءت نهاري يقظاناً فجائعها
وسئن ليلي إذ صُورن لي حلماً
رمتُ السكوتَ حداداً يوم مصرعها
فلو تُركت وشأني ما فتحت فما
أكلما عصفت بالشعب عاصفة
هو جاءُ نستصرخ القرطاسَ والقلما؟
هل أنقذ الشام كُتابٌ بما كتبوا
أو شاعر سان بغداداً بما نظما
فما لقلبي جياشاً بعاطفةٍ
لو كان يصدقُ فيها لاستفاض دما
حسب العواطف تعبيراً ومنقضة
أنْ ليس تضمنُ لا بُراءاً ولا سقما
ما سرني ومضاءُ السيف يعوزني
أني ملكتُ لساناً نافثاً ضرما
دم يفور على الأعقاب فائرُهُ
مهانة أرضي كفواً له الكلما
وكانت بداية تفاعل الشاعر مع فلسطين عند وضعها تحت الانتداب صدر بيت من الشعر هو "لحقت فلسطين بأندلس أسى"، قبل سبعة أعوام من قصيدته هذه وستظل الأندلس هاجس الشاعر، كلما اقتطع جزء من الأرض العربية. وإن ما يحدث في فلسطين يثير شجون الشاعر، ويعود به للماضي المؤلم، وليس للماضي المشرق، حيث ضاعت الأندلس من يد المسلمين، وخلفت جرحاً لم يلتئم بعد، لأن ضياعها كان دليلاً حياً على العجز، والهزيمة، وأفول نجم حضارة سامقة، بنت مجداً، وخلفت تراثاً ضخماً للإنسانية جمعاء. وما الهزيمة الجديدة إلا امتداد للماضي، وكأن الأمة العربية كتب عليها أن تكون في انحسار دائم، وهي في غفلة من أمرها، وفي طيش تغلبت فيه العاطفة على العقل، والخمول والخنوع على المثابرة والعمل، فجاءتها الضربات المتلاحقة، التي لم تقو على الثبات أمامها، أو تحملها:
مشات عواطفها في الحكم فارتطمت
مثل الزجاج بحد الصخر ارتطما
وإن أمة هذه حالها، ما لها إلا أن تعض إصبع الندم على ما فرطت يداها، حيث لا ينفع الندم. وكيف يكون ذلك، وهي تنقاد لعواطفها، ويطغى عليها الغرور، والغفلة التي تنسيها الواقع، وتشدها للحلم والخيال؟ قال:
فاضت جروح فلسطين مذكرة
جرحاً بأندلس للآن ما التأما
وما يقصر عن حزن به جدة
حزن تجدده الذكرى إذا قدُما
يا أمة غرها الإقبال ناسية
أن الزمان طوى من قبلها أمما
ماشت عواطفها في الحكم فارتطمت
مثل الزجاج بحد الصخرة ارتطما
وأسرعت في خطاها فوق طاقتها
فأصبحت وهي تشكو الأين والسأما
وغرَّها رونق الزهراء مكبرة
أن الليالي عليها تخلع الظلما
كانت كحالمةٍ حتى إذا انتبهتْ
عظت نواجدها من حرقةٍ ندما
وتظل الأندلس تلح على الشاعر، ولعله بهذا الإلحاح يريد أن يستثير الهمم، بوصف الأندلس حقيقية ماثلة، وشاهداً حياً على الهزيمة والانكسار. أقول: يعود الشاعر للأندلس، ويرى أن قوى الاستعمار ستعمل على أن تجرد هذه الأمة من كل أسلحتها القوية، المتمثلة في وحدتها وتماسكها. أما فلسطين فستنتهي من عروبتها، وسيكون مصيرها ما آلت إليه الأندلس. وأما بغداد ودمشق ممثلتين للعراق وسورية، فإحداهما لبريطانيا، والأخرى لفرنسا، وهما الدولتان اللتان وضع العرب يدهم بأيديهم، وناصروهم في الحرب، مقابل حصولهم على الاستقلال، لكن هاتين الدولتين كانت ناكثتين للعهد ناكرتين للجميل، سالبتين للخيرات، بحيث لم تبقيا منها شيئاً لأهلها الأصليين:
سيحلقون فلسطينياً بأندلس
ويعطفون عليها البيت والحرما
ويسلبونك بغداداً وجلقة
ويتركونك لحماً ولا وضما
جزاء ما اصطنعت كفاك من نعم
بيضاء عند أناسٍ تجحد النعما
وانظره في قوله: "ويتركونك لا لماً ولا ضما"، مشيراً بذلك إلى ما تتطلع إليه قوى المستعمرين: أن تسلب الخيرات ممثلة في اللحم. وأن تفل من قوة العرب ووحدتهم وتماسكهم ممثلاً في الوضم.
ويستمر الشاعر في خطابه للأمة العربية، حاثاً إياها على مواجهة العدو، مبيناً أن الذلة والمهانة والهوان في عدم رد الظلم الذي يقع عليها، وهي عاجزة عن رده. وإن أشد مظاهر التردي عند أية أمة أن لا تستقرئ التاريخ وتنعظ به: فما احترم حق أو رأي بغير قوة تدعمه. وما رحم جبار عنيد مستضعفاً، ولا ردع عن غيه دون إذلال له وتقليم لأظافره. وما التقى العدل والظلم في وقت واحد، فأمن الناس شرَّ الظلم، إلا إذا أمنت الغنم الجزار الذي يعيش على ذبحه لها وارتزاقه منها. ويخلص الشاعر من هذا إلى أن لا سبيل لأمته إلا القتال حسب، وما التسامح في الإسلام - وقد فهم خطأ- إلا عند القدرة والقوة، وليس عند العجز والضعف والهزيمة ومع ذلك فإن الشاعر لم يبأس من أمته التي إن فاتها النصر والانتصار لفلسطين، نتيجة ظروف خارجة عن إرادتها، فإنها بمشاعرها وتضامنها تستحق كل تقدير وإكبار، لأنها وحدتها المشاعر الصادقة ضد العدو المشترك، في الوقت الذي يراهن هذا العدو على أن يحيى الحزازات العرقية والدينية والمذهبية التي من شأنها أن تدمر هذه الأمة من داخلها، قال:
فيا فلسطين إن نعدمك زاهرة
فلست أولّ حق غيلة هضما
سورٌ من الوحدة العصماء راعهم
فاستحدثوا ثغرة جوفاء فانثلما
هزت رزايات أوتاراً لناهضةٍ
في الشرق فاهتجن منها الشجو لا النغما
ثار الشباب ومن مثل الشباب إذا
ريع الحمى وشواظ الغيرة احتدما
يأبى دم عربي في عروقهم
أن يصبح العربي الحر مهتضما
في كل ضاحية منهم مظاهرة
موحدين بها الأعلام والكلما
أفدي الذين إذا ما أزمة أزمت
في الشرق حزناً عليها قصروا اللمما
ووحدت منهم الأديان فارقة
والأمر مختلفاً والرأي مقتسما
لا يأبهون بإرهاب إذا احتدموا
ولا بمصرعهم إن شعبهم سلما
-3-
ومرَّت فلسطين بأحداث جسام في أعوام (1936- 1939) كان أشدها الإضراب العام الذي دام ستة شهور في وجه الانتداب البريطاني، احتجاجاً على تشجيعه للهجرة اليهودية لفلسطين، وتسهيله تهويد الأرض، وظلمه لأهل البلاد الأصليين. وقد أتيح للجواهري عام 1938 أن يكون بدمشق، وأن يسمع بالأحداث عن قرب، وأن يتفاعل معها، وينظم قصيدة عنوانها "يوم فلسطين"[3] جاءت في ثمانية عشر بيتاً.
وقد وجد الشاعر فيما يجري في فلسطين ما يتطلع إليه من مُثل، وما يعيد لهذه الأمة من مجد غابر. ولهذا لحظنا شيئاً من الزهو والفخار في مطلع القصيدة، فيه ثناء على شباب فلسطين الذين هبو لنصرة وطنهم، وتطهير بيتهم المقدس ممل لحقه من دنس. وإن هذا هو عهد الشاعر بأبناء فلسطين، مذ تعرضت بلادهم للغزو والاستيطان، وجاء مطلع القصيدة مؤكداً ذلك: "هبت الشام على عادتها". وكم كان الشاعر فخوراً بما يجري على أرض الواقع، بحيث أصبح مضرب المثل، يقتدى به، ويُعتز بمآثره، قال:
هبت الشام على عادتها
تملأ الأرض شباباً حنقا
نادباً بيتاً أباحوا قدسه
في فلسطين. وشملاً مزقا
بر بالعهد رجال أنف
أخذ الشعب عليهم موثقاً
شرفاً يوم فلسطين فقد
بلغ القمة هذا المرتقى
ألبس الملك رداءً وازدهرت
روعة التاريخ منه رونقا
ولكن، هل هذا يكفي؟ وهل شباب فلسطين قادرون على مواجهة الخطر المحدق بهم، والشر المبيت لهم؟ وهل الهدف هو فلسطين وحدها، بحيث تكون بقية الأقطار في مأمن مما يحيط بها؟ إن هذه الأسئلة، وكثيراً غيرها مما يدور في فلكها ترددت، وما زالت تتردد إلى الآن، على كل مخلص غيور على هذه الأمة، وقد كان الجواهري واحداً من هؤلاء، فأدرك أن الأمر لا يتوقف على شباب فلسطين وحدهم، وإنما هم بحاجة إلى من يقف بجانبهم، يسندهم دفاعاً عنهم، وعن نفسه في آن. وما دام الشاعر في سورية، فما كلن منه إلا أن التفت إلى شعبها مخاطباً إياه، ومذكراً بأن هناك دماً يسيل على أرض فلسطين، وإن هذا الدم عربي، سال من أفئدة عربية، على أرض عربية. وكم كان الشاعر رائعاً وهو يؤكد على عروبة هؤلاء المقاتلين الشجعان، الشهداء منهم والأحياء. وكأنه يلمح من طرف خفي، إلى أن هذا الدم سال دفاعاً عنكم مثلما هو دفاع عنهم. ويزداد الشاعر روعة في تلميحه وإيحائه، حين يبين أن الريح حملت الرائحة الزكية، فملأت الجو عبقاً، إنها رائحة الشهادة إلى الأهل للسير على الدرب والأخذ بالثأر، قال:
اسمعي يا جلق!! إن دماً!
في فلسطين هضيماً نطقا
عربياً سال من أفئدةٍ
عربياتٍ تلظت حرقا
صبغ الأرض وألقى فوقها
من فداءٍ وإباءٍ شفقا
تحمل الريح إلى أرجائها
من زكيّات الضحايا عبقا
لقد جاءت هذه الأبيات مقدمة للمقطع الأخير من القصيدة، وهو بيت القصيد. لأن ما يجري في فلسطين معروف للقاصي والداني، لكن الذي يؤلم الشاعر ويؤرقه، وهو التفاعل مع ما يجري من قبل الأمة العربية. وإذا كان الشاعر يخاطب دمشق بالاسم، فإنما يخاطب كل المدن العربية. وإذا كان الدم العربي في فلسطين في المقطع السابق كان "ضيماً نطقاً"، فإن هذا الدم هو في المقطع التالي "ينادي جلقا". وإذا كان ذلك الدم قد هب لنصرة الوطن وحماية المقدسات من قبل، فإنه بحاجة إلى نخوة عربية تهب لتقف إلى جانبه تشد من أزره، وتأخذ بيده ليواصل نزيفه إلى أن يسترد حقه المهضوم، ويدفع عن أمته الخطر المحتوم. ولذلك فإن على "جلق" وأهلها وكل العرب واجباً مقدساً وعليهم أداؤه.
اسمعي يا جلق!! إن دماً!
في فلسطين ينادي جلقا
اسمعي: هذا دم شاءت له
نخوةٌ مهتاجة أن يهرقا
شدَّ ما احتاجت إلى أمثاله
أممٌ يعوزها أن تعتق
شاهد عدلٌ على الظلم إذا
كذب التاريخ يوماً صدقا
احملي ما اسطعت من حباته
واجعليها لعيونٍ حدقا
ويعود الشاعر لصور البطولة من حيث بدأ، فيرسم صورة حية للأحداث، ممثلة في التضحية والفداء. فالطفل - وهو رمز البراءة والعطف- يسير على درب أبيه الذي سقط شهيداً. والأم - وهي رمز الأنوثة والضعف- يسوؤها أن لا تحظى بشرف الشهادة، وأن يسبقها غيرها إليها!. ولا يخفي الشاعر عجبه مما يرى ويسمع، وهو يعيش ويرى عوامل الإحباط تحيط به من كل جانب. لكنه عندما يقف على ما يجري في فلسطين - آنذاك- يعلن س"أن شعباً من جديد خلقا"!! قال:
يسقط الطفل على والده
وارداً مورده معتنقا
وتمر الأمُّ غضبى ساءها
في سباق مثله أن تسبقا
نسق للموت لم نسمع به
ليتنا نعرف هذا النسقا
هكذا تعلن صرعى أمةٍ
أن شعبا من جديدٍ خلقا
فهل صدقت نبوءة الجواهري؟! إن ذلك الشعب "الجديد" سرعان ما بات "قديماً" بالياً، بعد أن خذله أهله، وتكاتف عليه أعداؤه!!.
-4-
قال الجواهري في ذكرياته: "في يوم من أيام .. النصف الول للأربعينات، وأنا في جريدتي (الرأي العام)، جاءني هاشم جواد.. منتدباً عن البريطانيين المشرفين على محطة "إذاعة الشرق الأدنى" ليقول لي: إنه مكلف من فرع هيئة الإذاعة البريطانية في بغداد، بدعوتي لإقامة أمسية أدبية وشعرية في يافا.
قلت لهاشم جواد: فكرة لطيفة، وتعجبني، وأريد أن أرى فلسطين العربية الجميلة، والدعوة مقبولة مبدئياً، شريطة أن ألقي ما أشاء من قصائدي أو كلماتي من دون تدخل في هذه أو تلك.
قال: سأبلغ الجماعة وأخبرك بالجواب. وفي اليوم نفسه جاء الجواب بالموافقة.
.. وفي الطائرة، وفي أول مرحلة مطمئنة منها، ابتدأت أدمدم بقصيدتي "يافا":
بيافا يوم حط بها الركاب
تمطر عارض ودجا سحاب
ولما وصلنا، كان أول لقاء لي هو حفل فخم وجميل في يافا. وكان فيه العديد من الوجوه الفلسطينية البارزة، وأقطاب يافا، وشخصيات كبيرة. وقد أقيم في النادي العربي.
ألقيت القصيدة، وقوبلت باعتزاز كبير، وعندما وصلت إلى المقطع الفريد منها:
ولمَّل طبق الأرج الثنايا
وفتح من جنان الخلد باب
ولاح "اللدّ" منبسطاً عليه
من الزهرات يانعة خضاب
نظرت بمقلةٍ غطى عليها
من الدمع الضليل بها حجاب
وقلت وما أحير سوى عتاب
ولست بعارف لمن العتاب
أحقاً بيننا اختلفت حدودٌ
وما اختلف الطريق ولا التراب
ولا افترقت وجوهٌ عن وجوهٍ
ولا الضاد الفصيحُ ولا الكتاب
كانت المناديل البيضاء ترفرف بين أيديهم، وهي تمسح الدموع من عيونهم.
لقد كانت رحلة من رحلات العمر لا تنسى. مع هذا -وسامحوني- أن أقول: يا ليتني لم أر (فلسطين الجنة)، ولو أن وشيجتي بها وشيجة بشار بن برد بالأشياء والعوالم، بالأذن لا بالعين، فكان ذلك أفضل، ولكان وقع الفاجعة عليّ أقل.
رأيت فلسطين العربية، رأيت الجنان، ولمست رهبة المسجد الأقصى، ورأيت يافا الجميلة الغافية على البحر، وحيفا، ورأيت الفردوس المفقود، بكل معنى الكلمة، الذي أحللنا فيه عدواً مستئذباً، وخرجنا منه أذلاء، مهزمين! إنه لشيء فظيع لا يصدق"[4].
هذا جانب من انطباعات الجواهري عن زيارته الوحيدة لفلسطين في مطلع عام 1945، كما خطها الجواهري بقلمه، وهذا هو الجو العام الذي قال فيه قصيدة "يافا الجميلة"[5] التي جاءت في ثمانية وثلاثين بيتاً.
كان المقطع الأول منها - في اثني عشر بيتاً- في وصف جمال يافا، وموقعها على البحر، وطقسها الرائع، وما أحيط بها من "بيارات" البرتقال الغناء. وقد أخذ الشاعر بكل ذاك، فختم وصفه قائلاً:
فقلتُ وقد أخذتُ بسحر "يافا"
وأترابٍ ليافا تستطاب
"فلسطينٌ" ونعم الأمّ، هذي
بناتكِ كلها خودٌ كعاب
وقد كان الجواهري ناقداً لشعره، مميزاً بين جيد شعره ورديئه، إذ أن المقطع الذي عده "فريداً" في القصيدة، ودونّه في ذكرياته، وهو أجمل ما في القصيدة. وأما بقية الأبيات فهي وصف للطائرة ولرحلته فيها، ولا ترقى في مستواها الفني للأبيات التي أشرت إليها من قبل.
-5-
وفي العام نفسه -1945- يلقي الشاعر قصيدة بعنوان "ذكرى وعد بلفور"[6]. جاءت في ستة وخمسين بيتاً. ومن الواضح أن لشاعر اهتبل المناسبة، ليستعيد ذكريات الزيارة التي قام بها لفلسطين في مطلع العام، ولينبه إلى المصير السيء المنتظر لفلسطين، بعد أن انتهت الحرب، وزادت الهجرة لفلسطين، وتلبَّد الجو بالغيوم التي تنبئ بانتهاء الانتداب، وقيام دولة إسرائيل. وإذا ما تلفت الشاعر حوله، وجد الوطن العربي يسير نحو الهاوية، وكل قطر فيه يئن تحت وطأة الظلم، أو الاحتلال، أو التخلف. وإن هذه الأقطار لا تنهض بحملها، وهي أعجز من أن تقف إلى جانب فلسطين في محنتها.
أدرك الشاعر هذه الحقيقة. وأدرك في الوقت نفسه ما يحيط بفلسطين، وما يحدق بها من خطر، وقد رآه بأم عينه قبل شهور، وكان لابد له من موقف في ظل هذه الظروف، وقد حدده بشيء من اليأس، حين طلب من أهل فلسطين أن يتعمدوا على أنفسهم حسب:
خذي مسعاك مثخنة الجراح
ونامي فوق دامية الصفاح
ومدي بالممات إلى حياة
تسر وبالعناء إلى ارتياح
وقري فوق جمرك أو تردي
من العقبى إلى أمر صراح
وقولي قد صبرت على اغتباق
فماذا لو صبرت على اصطباح
فان أمر ما أدمى كفاحاً
طعون الخائفين من النجاح
فكوني في سماحك بالضحايا
كعهدك في سماحك بالأضاحي
فإن الحقَّ، يقطر جانباه
دماً، صنع المروءة والسماح
وتاريخ الشعوب إذا تبنى
دم الأحرار لا يمحوه ماحي
فهذه دعوة إلى أهل فلسطين للصمود والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل وطنهم، ولا بأس في ذلك. وقد صاحب هذه الدعوى حالة من الحزن واليأس، في مقطع ذكر الشاعر فيه بزيارته الأخيرة، ولكن شتان بين مشاعره الأولى، وهو يصف يافا ومدن فلسطين الخدري بنشوة وسعادة، وبين ذكرياته الجديدة للمدن نفسها، وإذا بـ"عين الفجر تذري الدمع طلاً"، وإذا بـ"الحزن في وقع المساحي"، بل إن الزن جرَّ حزناً على الشاعر من واقع أمته المرير.
ويرى الشاعر أن فلسطين كتب عليها الأسى من بعيد، وعليها أن تتحمل تبعاته وحدها، ولا تلتفت للعرب الآخرين لأنهم لن يقدموا لها إلا البكاء والصياح والعويل. ووصل الأمر أن عرض الشاعر بالأمة العربية وهم يدقون "من الأسى راحاً براح"، ومتى هذا، عند طلب النصر والنجدة منهم، انظره وهويوجه خطابه لفلسطين وأهلها:
شددت عرى نطاقك فاستمري
ولا يثقل عليك فتستباحي
ولا تعني بنا إنا بكاة
نمدك بالعويل وبالصبياح
ولا تعني بنا فالفعل جوّ
مغيم عندنا والقول صاح
ولن تجدي كإيانا نصيراً
يدق من الأسى راحاً براح
ولا قوماً يردون الدواهي
وقد خرست بألسنة فصاح
ويبدو أن الجواهري أدرك أن هناك مفارقة كبيرة بين ما يقوله الآن، وما سبق أن قاله في الموضوع نفسه، إذ أشار إلى أن الأمة العربية سد قوي لفلسطين مرة، كما دعا بإلحاح -مرة أخرى- إلى مساندتها والوقوف إلى جانبها. إلا أنه استسلم في نهاية الأمر، وماله إلا أن يقر بالأمر الواقع ، وأن يعترف أمام نفسه، وأمام الآخرين، أن حال أمته لا يسر: فقد زيفت التاريخ، وزينت الواقع الفاسد الذي غلف قبيحه بالحسن، قال:
أعيدك من مصير نحن فيه
لقد عوذت من أجل متاح
ووضع أمس كلهم لواهٍ
به واليوم كلهم لواحي
تنصل منه زوراً صانعوه
كمولود تحدر من سفاح
وذموا انهم كانوا عكوفاً
عليه في الغدو وفي الرواح
وتأريخ أريد لنا ارتجالاً
فآب كما أريد إلى افتضاح
شحناً دفتيه بمغمضاتٍ
"كأحداق المها مرضى صحاح"
وغلفنا مظاهره حساناً
مزخرفة على صور قباح
وسقنا الناس مكرهةً عليه
على يد ناعمين به وقاح
وإن أمة هذا مصيرنا الذي آلت إليه، لا يمكن أن تكون قادرة على الانتصار لنفسها أو لغيرها. ولهذا وجدنا الجواهري يلح على أهل لفلسطين في أن لا ينساقوا وراء أمتهم وما ترفعه من شعارات، لأنه يخشى من "المتضاربين على القداح" من العرب، الذين يدّعون الوطنية، فأغرقوا بلادهم في الفوضى والفساد، ويخشى الشاعر أن تمتد أيديهم إلى خارج بلادهم، ليعبثوا فيها فساداً.
وقد تعددت صور هؤلاء المتضاربين عند الشاعر، إذ كثيراً ما نكأوا جراحاً بدعوى أنهم يأسونها، وكثيراً ما زينوا الكلم، وضللوا الشعوب البسيطة التي سرعان ما تنخدع بالشعارات البراقة، قال:
فلسطين توقي أن تكوني
كما كنا بمدرجة الرياح
وأن تضعي أمورك في نصاب
يوقر أو يطفف باجتراح
وهابي أن تمد إليك منا
يد المتضاربين على القداح
فكم هاو أجد لنا جروحاً
بدعوى أنه آسي جراح
وأصدقك الحديث فكم "حلول"
حرام، لحن في زي مباح
نطوّف ما نطوّف ثم نأوي
إلى بيت أقيم على "اقتراح"
يخرج ألف وجهٍ من حديثٍ
ويخلق ألف معنى لاصطلاح
لقد كان حديث الشاعر عن واقع الأمة العربية، أكثر منه عن فلسطين، ومرد ذلك، أنه لا يجد فصلاً بينهما، اللهم ذلك التفاوت في الموقف: واحد ضعيف يتهدده الخطر فيقاومه بإمكاناته المتواضعة. وآخر أقوى إلا أنه لا يوظف قوته للدفاع عن نفسه أولاً، ولساعدة إخوانه بعد ذلك. ولا تخفى استعانة الشاعر ببيت الحطيئة في بيته قبل الأخير بوصفه ملائماً للمقام.
-6-
وتتابع قصائد الجواهري في هذه الفترة. وتظل زيارته لفلسطين ماثلة أمامه، ويساعد على إحياء ذكراها الجو العام المخيف الذي يغلف جوها. ويمتد صدى الزيارة عامين، ويصرح الجواهري بقوله: "من ذيول هذه الزيارة إلى فلسطين، ومن بقايا ألمي وتوجعي، كانت قصيدتي "اليأس المنشود"[7]، التي قالها في شباط (فبراير) 1947، وجاءت في اثنين وخمسين بيتاً.
وإذا كان للزيارة أثر نص عليه الجواهري، فإن هناك دوافع أخرى، كان أبرزها ما آلت إليه الأمور في فلسطين - آنذاك- مما جعل الجواهري، يكثر من قصائده، في هذه المرحلة الحرجة، إذ بلغت قصائده خلال ثلاثة أعوام قبيل النكبة خمس قصائد، وهي تزيد من حيث الكم عن نصف قصائده في فلسطين.
وغن عنوان القصيدة "اليأس المنشود" يشي بالحالة التي وصل إليها الشاعر، ولا أظن أن هناك أسوأ من اليأس. لكن أي يأس أراد الشاعر؟ إنه بعيد عن اليأس الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى، أي الاستسلام والخنوع، بل إنه نظر إلى اليأس من كل الوعود والحلول، والآمال الكاذبة التي يمنى بها العرب من قبل أعدائهم. هذا هو اليأس الذي يدعو إليه الشاعر. ولكنها دعوة يترتب عليها تبعات كبيرة وكثيرة، إذ يترتب عليها مواجهة العدو بدلاً من الحوار معه،وتحديه عوضاً عن استرضائه واستجدائه. ومع ما في هذه الدعوى من مجازفة، فإن الجواهري لم يعدم الشواهد عليها في التاريخ الإسلامي، وغير الإسلامي، يجد هذا في الثورة الفرنسية، التي تحدث الظلم والقهر وانتصرت عليهما عند الغرب من قريب، ويجده عند طارق بن زياد الذي تحدى المشركين بعدد قليل من جنده المؤمنين، فانتصر عليهم من بعيد. وانطلاقاً من هذه القناعات القوية الصعبة،جاءت دعوة الجواهري لليأس، الذي يتحقق من ورائه العدل والنصر، ويتحرر العرب من "الأمل المزعوم"، و"الأمل الرخو" المشدود بحبل ضعيف جداً، بحيث لا يحتمل أي شدّ، وإذا ما تم ذلك، فإنه سرعان ما ينقطع، قال:
ردوا إلى اليأس ما لم يتسع طمعا
شرّ من الشرّ خوفٌ منه أن يقعا
شرّ من الأمل المكذوب بارقه
أن تحمل الهمّ والتأميل والهلعا
قالوا "غدٌ" فوجدت اليوم يفضله
"والصبر" قالوا: وكان الشهم من جزعا
ولم أجد كمجال الصبر من وطن
يرتاده الجبن مصطافا ومرتبعا
وإنّ من حسنات اليأس أن له
حداً، إذا كلّ حدّ غيره قطعا
وأنه مُصحر الأرجاء لا كنفاً
لمن يلصّ، ولا ظلا لمن رتعا
وجدت أقتل ما عانت مصائرنا
وما التوى الشيب منه والشباب معا
أنا ركبنا إلى غاياتنا أملاً
رخواً،إذا ما شددنا حبله انقطعا
نسومه الخسف أن يطوي مراحلنا
وإنتشكى الحفا والأين والضلعا
هذا هو "الأمل المزعوم" فاقترعوا
واليأس أجدر لو أنصفت مقترعا
اليأس أطعم بالأشلاء "مقصلة"
عدلاً. وطوّح "بالاستيل" فاقتلعا
وطارقٌ منه أعطى النصر كوكبة
نزراً، وعدى إلى الأسبان فاندفعا
وتتوالى الخواطر عند الشاعر، بحيث يخيل للمرئ أنه يقع في شيء من التناقض، بين "اليأس المنشود"، واليأس المحبط، وذلك حين يشير إلى أن لا أمل في إنقاذ فلسطين، لأن أمرها انتهى من بعيد، منذ كشفت بريطانيا عن نواياها السيئة بوعد بلفور، وبما أعدته من خطط لتنفيذه. وإن ما نراه الآن هو نهاية المطاف وليس بدايته. إنها صورة قاتمة يرسمها الشاعر بقوله:
يا نادبين "فلسطيناً" وعندهم
علم بأن القضاء الحتم قد وقعا
كم ذا تلحون أن تستوقدوا قبساً
من الرماد وممن مات مرتجعاً
كفى بما فات مما سميت "أملاً"!
من "الحلول" التي كيلت لكم خدعا
جيل تصرّم مذ أبدى نواجذه
وعدٌ "لبلفور" في تهويدها قطعاً
نما وشبّ بأيدي القوم محتضناً
ومن ثدي النتاج المحض مرتضعا
والساهرون عليه كل "منتخب"
بيني ويهدم. إن أعطى وإن منعا
لكن الشاعر سرعان ما يعود إلى رشده،وتظهر ثقته بأمته، فيعتذر عما صدر منه، انطلاقاً من يقينه بأن الفجر لابد أن يطلع مهما طال الليل، وأن النصر آت وإن كثرت الهزائم، وقسا الدهر. إنه الشاعر الحساس الذي يكون وقع الألم عليه أقوى وأشد منه على الآخرين، ولهذا تكون ردة فعله متناسبة مع ما عاناه، قال:
يا نادبين فلسطيناً صدعتم
بالقول، لا منكراً فضلاً لكم صدعا
ولا حجوداً بأن الليل يعقبه
فجرٌ، فتجر منه الشمس مطلعاً
ولست أبكر أن قد قاربت فرص
والمنبر الحرّ يشكو فرط ما افترعا
وإن ثقته ترتكز على تراث غني من الأمجاد والانتصارات. ويتسم بالحمية التي لا هوادة فيها إذا ما مس جانبهم، أو اعتدى عليهم معتدٍ، في الجاهلية والإسلام. ويشده الشاعر حين يعقد شيئاً من المقارنة بلين ذلك الماضي المشرق، وبين الحاضر المحزن، ولهذا فإنه يشير للماضي بتوجس، ويتمثل في التساؤل الذي يطرحه، دون أن ينتظر جواباً عليه، لأنه غير متوافر في أمته، قال:
من ذا يرد لنا التاريخ ممتلئاً
عزّاً، وإن لم نرد رداً ومرتجعاً
كانوا يذمون (رباً) بالعصى قرعاً
ويغضبون لأنفٍ منهم جدعا
ويبعثون قتالاً أن قبرّة
ضيمتْ، وأنّ بسوساً ذيلها قطعاً
وكان من فتح عمورية منعت
حماتها حوم العقبان أن تقعا
نداءُ صارخةٍ بالروم (معتصماً)
لم يأل أن أدركتها (بلقه) سرعاً
حمية لو أخذناها ملطفة
بالعلم، طابت لنا ردءاً ومدّرعا
وانظره في الاحتراز الجميل الذي جاء به في البيت الأخير، وهو يريد أن يبين أنه غير متعصب لكل ماش، وغير راضٍ عن كل سلوك، وإنما يتطلع إلى "الحمية" التي تحفظ الأوطان من الضياع، والكرامة من الامتهان، والخيرات من السلب والنهب.
-7-
ويزور بشارة الخوري العراق في أواخر عام 1947، ويستقبله الجواهري بقصيدة بعنوان "ناغيت لبناناً"[8]، تحدث فيها عن لبنان الهوى، والجمال. وتكلم على بشارة الخوري الرئيس والشاعر. وأشار إلى أنه في العراق موضع ترحيب وإكرام على الصعيدين الرسمي والشعبي. وخصَّ عبد الإله، الوصي على عرش العراق آنذاك، بمقطع مدحه فيه. وقال الجواهري في معرض حديثه عن هذه القصيدة: "وكان مسك الختام -كما يقال- منها ما يختص بفلسطين، وربما كان أبدع وأفخم ما في القصيدة كلها، مما استوجب النقيضين: أن يعجب، بل أن يهتز لها عبد الإله المسؤول الأول في الدولة، عما فيها، وبخاصة فإن حصة بريطانيا شبه المسيطرة على الحكم والحاكمين، ثم أن تغضب السفارة البريطانية، فتقدم احتجاجها على تلك الحصة، ذلك أن الحصة كانت رسمية وبكل معنى هذه الكلمة، ثم ألا ينتهي الأمر بهذا كله، بل أن ينتزع عبد الإله من عنق رئيس الديوان الملكي -آنذاك- تحسين قدري وسام الرافدين المذهب، ليخلعه علي"[9].
وإن ما يعنينا من هذا الاقتباس أمران: أحدهما مديح الجواهري لعبد الإله بالإضافة لبشارة الخوري، وإنعامه عليه بوسام الرافدين، وهو موقف يحاول كثير من الكتاب أن يبعدوا الجواهري عنه، بينما هو يقربه، وتشهد عليه آثاره. وثانيهما نص الجواهري على أن المقطع المتصل بفلسطين في القصيدة "ربما كان أبدع وأفخم" ما فيها كلها. ولعل شرف الموضوع هو الذي دعا الجواهري إلى أن يصرح بهذا الحكم. أما من حيث الفن، فإن المقطع يخلو من أية صورة يمكن أن تشد القارئ، بحيث تجعل هذا المقطع يختلف عن بقية ما جاء في القصيدة: فالمعاني التي طرقها الشاعر معادة، وسبق له ن عرض لها: حديث عن المسجد الأقصى وهو حزين، وفلسطين ذهبت ولم تجد مطالباً بها، والأذان لم يعد يرفع في بيوت الله. وبريطانيا "الحنطلي" بمطالها ووعودها الكاذبة، ظهرت على حقيقتها بخذلان العرب. ولعل الجانب الوحيد الذي يحسب للشاعر في هذا، أنه تحدث عن النكبة قبل وقوعها، وقد وقعت. وكفى بهذا دليلاً على حسن استقراء الشاعر للأحداث، ونبوءته بها قبل وقوعها، وانظره وهو يخاطب بشارة الخوري قائلاً:
جئت العراق ومن فلسطين به
وجعٌ مطببه يعود عليلا
والمسجد المحزون يُلقي فوقه
ليلاً -على الشرق الحزين- طويلاً
ذهبت فلسطين كأن لم تعترف
من كافليها ضامناً وكفيلاً
وعفت كأن لم يمش في أرجائها
"عيسى"، و"أحمد" لم يطر محمولا
والمسجد الأقصى كأن لم يرتفع
فيه أذانٌ بكرة وأصيلا
وثرى صلاح الدين ديس وأنعات
منه جيوش الواغلين خيولا
و"الحنظلي" بحلفه ووعوده
ما زال كاذبٌ وعده ممطولاً
لم يرع شرع الكافرين، ولا وفى
حقيقهما القرآن والإنجيلا
أعطى "النبي" أهلها فاستامهم
بلفور، فاستوصى بهم عزريلا
واليوم يفخر "بالحياد" كفاخر
بالقتل إذا لم "يسلخ" المقتولا
-8-
وإذا ما جاء عام 1948 -عام النكبة- وتكشف كل شيء فزع الجوهري لعبد الإله وتوجه إليه بالخطاب، كي يكون امتداداً لجده الذي قاد الثورة العربية، ولأبنائه وأحفاده الذين ترعرع الجواهري بين ظهرانيهم، ودبح فيهم القصائد الكثيرة. أقول: ناشد الجواهري عبد الإله، أن لا تكون فلسطين كالأندلس. مرة ثالثة: الأندلس شاهد حي عند الجواهري عام 1922،وعام 1929، وها هي الحقيقة المرة تتجسد أمام ناظريه بعد أن كانت حدساً يحدس به. ولم يعد الشاعر الوسائل التي يستعين بها لاستثارة عبد الإله، إذ يذكره بجده الحسين بن علي الذي ووري جثمانه في القدس، وبأن روحه والمبادئ السامية التي قضى في سبيلها تناشده أن يهب لنجدة فلسطين، و"أن يهدي لها قبساً" من نور، لعله يخرجها من وسط الظلام الذي يحيط بها من كل جانب، قال:
ناشدت جندك جند الشعب والحرسا
أن لا تعود فلسطين كأندلسا
ناشدتك الله أن تسقي الدماء غداً
غرساً لجدك في أرجائها غرسا
تلمس الجدف الزاكي تجد لهثاً
من الشكاة وتسمع للصدى نفسا
ناشدتك الله والظلماء مطبقة
على فلسطين أن تهدي لها قبساً[10]
ولم تكن صيحة الشاعر في واد، إذ لبى زعيمه دعوته، وشارك الجيش العراقي في حرب فلسطين مع ستة جيوش عربية أخرى، واهتز الشاعر لهذه المشاركة، وطرب لصوت المعارك، وغنى للبطولة والفداء، وقال قصيدة "فلسطين"[11]، التي جاءت في مئة بيت وبيت من الشعر. وقد تلت مقطوعته السابقة، في التاريخ، ولم يفصلها عنها وقت طول. وما كان يمكن للجواهري أن يصمت وقد رأى العرب تتدفق على فلسطين، بعزيمة صادقة، وبالإمكانات المتاحة. غير عابئين بالنتائج. رأى الجواهري هؤلاء الجنود، فغنى للحرب، وهو شاعر الحرب. وتفاعل مع القتال، بعد أن سئم الاستكانة والاستسلام. بل إن الشاعر زها وافتخر وهو يرى دعواته السابقة يُؤخذ بها -وإن كانت قد تأخرت كثيراً- ألم يدع إلى اليأس" من كل الحلول والوعود، واستبدل ذلك بالتحدي والقتال من قبل؟ بلى!! وهاهي دعوته تتحقق، فماذا على الشاعر أن يفعل؟
لقد جاءنا بقصيدة رائعة، تذكرنا بقصيدته الأولى التي قالها قبل تسعة عشر عاماً، حينما تحدى أهل فلسطين اليهود في حادث البراق. إن الجودة في الفن الشعري عند الجواهري تتلاءم تلاؤماً طردياً مع قوة الحدث وروعته. وكأن الشاعر يقول: أعطني بطولة وتضحية، أعطك فناً جميلاً.
جاء مطلع القصيدة معبراً عن نشوة الشاعر بما يرى ويسمع، ونشوة الجنود وهم يتوجهون إلى المعركة التي طال انتظارهم لها، وإذ بهم على غير المألوف في مقل الموقف الذي يمرون به. فلا خوف، ولا تردد، وإنما هم على عكس ذلك كله: فسيرهم بثقة ودلال. وجراحهم المثخنة ودماؤهم النازفة مصدر فخر واعتزاز. وأسلحتهم يتمسكون بها ويحرصون عليها وأرواحهم- وهي أعز ما يملكون - يبذلونها رخيصة في سبيل ما هو أغلى منها، إنه الوطن، قال:
دلالاً في ميادين الجهاد
وتيهاً بالجراح وبالضماد
ورشفاً بالثغور من المواضي
وأخذاً بالعناق من الجهاد
وعبّاً من نمير الخلد يجري
لمنزفةٍ دماؤهم صوادي
وتوطيناً على جمر المنايا
وإخلاداً إلى حرّ الجلاد
وإقداماً وإن سرت السواري
بما يشجي وإن غدت الغوادي
وبذلاً للنفيس من الضحايا
فانفس منهم شرف البلاد
إنني أجد فرقاً كبيراً بين هذا المطلع الهادئ -القوي الذي افتتح به الشاعر قصيدته، وبين قصائده السابقة- في الموضوع نفسه. إذا كان في تلك القصائد برماً بالواقع العربي، يائساً منه، معرضاً به. أما هنا، فالمحتوى مختلف، ولذلك كان الفن مختلفاً أيضاً. وانظره في حرف العطف الذي ربط الأبيات الستة، بحيث جعلت بينها رابطة قوية، بتدرج جميل، كل فكرة تسلم للأخرى بلا تفكك أو تكرار.
ويبقى الشاعر مع المقاتلين الشجعان، ويجد متعة في خطابهم، والحوار معهم، وكأنه يشد أزرهم، لأنهم هم الأمل، وهم الرمز والمثل الأعلى الذي تطلعت إليه أمتهم من بعيد، بمختلف فئاتها، ليذودوا عنها الويل والهلاك الذي منيت به:
حُماة الدار مسّ الدار ضر
ونادى بافتقادكم المنادي
أرادتكم لتكفوها فلولاً
مُعرزة كأرتال الجراد
وشاءتكم لتنهطلوا عليها
هطول الغبث في سنةٍ جماد
وطاف عليكم حلم العذارى
مروعة كحلن من السهاد
يشوق الذائدين على المنايا
نداء العاجزات عن الذياد
تطلعت العيون إلى خيول
محجلةٍ منشرة الهوادي
خبرن رحى الوغى فعن اعتسافٍ
يدرن مدارها وعن اعتماد
إذا الرجلان مسَّهما لغوبٌ
شأتْ بهما اليدان عن ارتداد
عليها كلّ أغلب أرقمي
يبيس العين ريان الفؤاد
زوت ما بين جفنيه هموم
نفت عن عينه درن الرقاد
وشدت خافقيه فلن يرفا
إذا التقيا على الكرب الشداد
وكل مسعر الجمرات يكسى
من الغبرات ثوباً من رماد
تمرس بالحتوف فلا يبالي
أحادت عنه أم عدت العوادي