لا يمكن لأحد ان يتكهن بمصير الأدب في هذا العصر الذي لم نجد الوقت الكافي لنتعلم أبجديته، عصر الانترنت وثورة الاتصالات. وأمام هذا التلاحق السريع والمذهل للأحداث، اختلفت ردود فعل الأدباء. فمنهم من ركب موجة الانترنت وعرف كيف يروضها لصالحه، ومنهم من أغرقته وشلت قدرته على الإبداع.
-1-
في زمننا هذا لم يعد هناك كاتب بمنأى عما تنسجه الأنترنت حولنا من شبكات مرئية ولامرئية. وحتى ان ادعى بعضهم ازدراءه لشبكة الويب وتشكيكه في جدواها ومصداقيتها – بدعوى انه لا يمكن الوثوق بالانترنت طالما أن كل من هب ودب يستطيع أن يسكب ما عن له في بحرها الذي لا نهاية له- غير أنه لا يمكن لأحد أن ينكر ما تفتحه من امكانات هائلة.
الانترنت غيرت، وتغير كل يوم، مقاربتنا للابداع. فبعد أن كان الكتاب يكاد يكون الوسيط الوحيد لنشر الأدب، كسرت الانترنت هذا الاحتكار حين جعلت النشر أكثر ديمقراطية وبتكلفة تكاد تكون معدومة. ومع الانخفاض المتزايد لتكلفة الانترنت، تتسع كل يوم قاعدة مستعملي الويب. وبعد أن كان القراء يعدون بالعشرات والمئات والآلاف، صاروا يعدون بالملايين والمليارات.
-2-
ومع ذلك، علينا أن لا نكون متفائلين أكثر من اللزوم. فصحيح أن للأنترنت قدرة فائقة على نشر الثقافة، وصحيح أيضا أن نصا ينشر على الانترنت يمكن أن يقرأه مليارات الأشخاص، ولكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن الانترنت، كأداة للتواصل وتوصيل البيانات لأكبر عدد ممكن من القراء، مرتبطة وثيق الارتباط باللغة. اللغة المهيمنة تصبح بفضل الانترنت مهيمنة أكثر، أما اللغات المستضعفة فبالكاد يكون وجودها على الانترنت مؤثرا. وهنا، في رأيي، لب المسألة. وذلك لأن الانترنت مرتبطة بالترجمة. وكلما كانت لغة الوصول منتشرة ومؤثرة، كانت قاعدة القراء أكبر.
ومن هنا يطل سؤال نراه شديد الأهمية:
في ما يخصنا كعرب، ما جدوى أن ننشر نصوصا على الانترنت اذا كانت الأمية المعلوماتية منتشرة بين صفوف المتعلمين، وإذا كانت الاحصائيات تؤكد على أن العرب يأتون في أسفل قائمة الشعوب القارئة.
-3-
ان بعض الكتاب العرب، ممن انغلقت وسائل النشر “التقليدية” في وجوههم، لرداءة ما يكتبون أو لضعف قدرتهم على الاقناع، وجدوا في الانترنت متنفسا لخربشاتهم التي تفتقد الى أي معنى، فصاروا ينشرون على صفحات الانترنت هذيانهم كيفما اتفق. وحين يجتمع الأردياء، فانهم لا ينتجون سوى الرداءة. وحين تسود الرداءة، يلتبس المعنى.
من هي السلطة التي يمكنها ان تغربل الفيض الهائل من الرداءات التي تنشر كل يوم على شبكة الانترنت بدعوى فسح المجال للجميع؟
-4-
مع ظهور الانترنت، ظهر مفهوم جديد هو ما يسمى المدونة (Blog)، وهي نصوص قصيرة تشكل نوعا من اليوميات يكتبها مستعملو الشبكة بحرية وتنتشر بشكل واسع على الويب.
ومن المبكر القول ان كان يمكن أن تسمى هذه النصوص جنسا أدبيا، فما زالت تنقصنا المسافة الزمنية اللازمة لتقييم هذه التجارب في الكتابة التي بدأت تأخذ أبعادا مذهلة. ولكن ما يمكن استخلاصه هو أن مفهوم الكاتب نفسه بصدد التغير جذريا. في الماضي، كان الكاتب هو من يصدر له كتاب أو أكثر. واليوم، وقد صار يمكن لأي كان ان ينشر ما يشاء على الانترنت، هل نحن على أبواب تعريف جديد للكاتب؟
-5-
إن أمورا كثيرة بدأت بالفعل تتغير، وصارت قضايا عديدة تطرح بإلحاح، كحقوق التأليف، وحرية التعبير ومسألة التلقي وغيرها من القضايا التي لا يتسع لها المجال هنا. ولكن ما هو مؤكد بالفعل هو أن الحد الفاصل بين “الكاتب” و “القارئ” قد أصبح أكثر ضبابية.
حين يصبح النشر عملية سهلة، حيث يكفي أن يكون للانسان حاسوبا متصلا بشبكة الأنترنت لينشر ما يريد وبدون رقابة، حينئذ يمكن لأي كان أن يصف نفسه بأنه “كاتب”، ويمكن لأي كان ان يقرأه بحرية.
ان تنقل المعلومات على شبكة الانترنت بسرعة مذهلة تجعل كل محاولة للـ”غربلة” والمراقبة تكاد تكون أمرا مستحيلا. فقبل أن تتفطن الرقابة لوجود ما يسوغ حذف نص من النصوص، يكون هذا النص قد دار حول العالم مرات عديدة ويستحيل سحبه. لقد حدث هذا مع الحكومات الغربية عديد المرات، حيث ما ان تتسرب وثيقة من الوثائق وتنشر على الانترنت يصبح من المستحيل منع انتشارها.
ان في طبع الانسان الكثير من المكر ورغبته في الممنوع لا تضاهيها رغبة. واعتقد أن الانترنت ستأتي معها بتقنيات جديدة في الاشهار، ومن هذه التقنيات “المنع”. ففي فضاء تنشر فيه كل يوم ملايين الصفحات، الطريقة الوحيدة لشد انتباه القارئ ستكون منع نشره، لأي سبب من الأسباب. وهذا من شأنه أن يخلق نوعا من المزايدة مما سيأدي الى اعادة تعريف “الممنوع”.
-6-
لقد دخلنا عصر النشر الالكتروني، وبدأ حتى كبار الكتاب يدخلون على الخط. وتختلف مقاربة كل كاتب لهذه المسألة. في موقعه على الانترنت، اختار الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو أن ينشر بعضا من كتبه مجانا، بحيث يتمكن القراء من تحميل هذه الكتب مترجمة الى عديد اللغات. إذن، هذا كاتب مقروء على نطاق واسع (ولا يحتاج الى اشهار)، أعلن عدم خوفه من الانترنت. بل انه ذهب الى أبعد من ذلك وجعل من موقعه الالكتروني متعدد اللغات (برتغالية، فرنسية، انجليزية، ايطالية، عربية…الخ)، فضاء مفتوحا يعول فيه الكاتب على القيمة المضافة ويخطب فيه ود القارئ.
أما الكاتب الكولمبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، فقد تعرض منذ أشهر الى حادثة متعلقة بنشر عمل له على الانترنت أظهرت اختلافه مع كويلو. لقد لف ماركيز روايته الأخيرة، “ذكرى غانياتي الحزينات”، بكثير من التكتم والسرية ولم يشأ أن يدلى بأي تصريحات حول موضوع الرواية قبل نشرها. غير أن شخصا مجهولا عمد الى نشر نص الرواية على الانترنت في نسخة مقرصنة قبل أيام قليلة من صدور الكتاب في الأسواق. لقد أدت عملية القرصنة هذه الى افشال خطة الكاتب المتمثلة في تشويق القارئ وتشهيته باللعب على فضوله وترقبه. وفي عملية هجوم مضادة، فاقت في جرأتها عملية القرصنة نفسها، أعاد ماركيز كتابة الفصل الاخير من الرواية وأصدرها في نسخة جديدة تختلف في نهايتها تماما عن النسخة الأولى.
-7-
والسؤال هو: أين العرب من كل هذا؟
يؤسفنا ان نقول ان مشكلة العرب قد تفاقمت في عصر الانترنت وثورة الاتصالات فتراجع حضورهم أمام شعوب عرفت كيف تروض هذا العنكبوت الهائل ووجدت فيه أداة طيعة وغير مكلفة لنشر ثقافتها وابداعاتها.
بعض الكتاب العرب بسذاجتهم المعهودة سارعوا الى انفاق الاف الدنانير لاحداث مواقع لهم على الانترنت ظنا منهم أنه بمجرد أن يكون للانسان موقع على الويب يكون قد حقق العالمية. ولكن عن أي عالمية نتحدث ما دام قراء العربية محدودي العدد .
فحري بنا اذا أن نتكيف مع الواقع الجديد ونغير عقليتنا وعلاقتنا بالنص المكتوب وأن ندرس أفضل السبل لتفعيل وجودنا على الانترنت قبل أن نفكر في هدر أموال طائلة دون تخطيط، بدعوى التواجد على الشبكة والتواصل مع الآخر.
-8-
ويبقى السؤال المحير :
هل الشعب الذي لا يقرأ على الورق سيقرأ على الانترنت؟ وهل بمقدور من لا يبدع بالقلم أن يبدع بالفأرة؟
* نشرت هذه المقالة في مجلة “شؤون ثقافية”، العدد الثاني 2006.